أ. الوراثة والعوامل الولادية
تسهم الوراثة إسهاماً كبيراً في إظهار الفروق بين الأنواع المختلفة من الكائنات، وفي تحديد البنية الجسمية والعقلية والوجدانية لكل نوع، واستطراداً في الخصائص السلوكية لكل منها. ولكن من الملاحظ وجود فروق بين أفراد النوع الواحد ـ كالإنسان مثلاً ـ فهل ترجع هذه الفروق إلى الوراثة أم البيئة أم كليهما؟
ترجع الفروق الفردية في جزء منها إلى الوراثة، إذ تنتقل الخصائص الوراثية من الآباء إلى الأبناء بواسطة الكروموسومات، وعددها 23، من كل من الأب والأم. ومن تزاوج الجينات التي تحملها الكروموسومات تظهر الفروق الفردية. يُستثنى من ذلك التوائم المتماثلة، لأنها تنتُج من انقسام بويضة واحدة ملقحة بحيوان منوي واحد. ويؤدي هذا إلى أن تكون التوائم المتماثلة أكثر تشابهاً في خصائصها الوراثية من التوائم الأخوية الناتجة من بويضتين مستقلتين، كل منهما ملقحة بحيوان منوي مختلف.
ومما يؤدي إلى زيادة الفروق الفردية وجود جينات مسيطرة وجينات متنحية، فمثلاً جينات لون العين البني أكثر سيطرة من اللون الأزرق، وهذا معناه أنه إذا اتحد جين للون البني بجين آخر للون الأزرق، فإن لون عين الطفل يكون بنياً، أما إذا اتحد جين للون الأزرق مع جين آخر للون الأزرق فإن لون عين الطفل يكون أزرق. وعلى هذا فإن الخصائص الملاحظة الواضحة للطفل لا تُعد دليلاً أو قريناً أو علامة على البنية الجينية الكامنة.
وثمة عوامل أخرى تُعتبر مسؤولة عن الفروق بين الأفراد، وهي العوامل التي تؤثر في الجنين في البيئة الرحمية وقت تخصيب البويضة وحتى الميلاد، ويُطلق عليها مجموعة العوامل الولادية. من هذه العوامل تغذية الأم أثناء الحمل، والأمراض التي تُصاب بها الأم وكذلك اضطرابها الانفعالي. وفي هذا الصدد أُجريت تجربة على مجموعتين من الفئران، تعرضت المجموعة التجريبية لمواقف مثيرة للتوتر والقلق قبل الحمل وأثناءه، أما المجموعة الضابطة فلم تتعرض لهذه المواقف. بينت التجربة أن صغار المجموعة التجريبية كانت أكثر انفعالية من صغار المجموعة الضابطة.
هذا ويجب ملاحظة أن العوامل الولادية تعتبر بيئية، وعلى هذا يمكن القول بأن وجود الفروق الفردية وظهورها يرجع إلى تفاعل الوراثة مع البيئة.
ب. التنبيهات وأثرها في النمو
أجريت دراسات متعددة حول تأثير التنبيهات المختلفة في النمو، ويمكن تقسيم هذه الدراسات نوعين:
(1) حرمان التنبيهات
أُجريت دراسات تجريبية على حيوانات رُبيت في بيئات محرومة التنبيهات المختلفة، مثل تربيتها في الظلام. بينت الدراسات أن هذه الحيوانات عندما كبرت كانت تعاني اضطراباً في أدائها الحسي، مثل قدرتها على الإبصار والتعلم.
وتشبه هذه التجارب ما لوحظ على عميان أبصروا بعد مدة طويلة من كف البصر، إذ لوحظ وجود اضطراب في قدرتهم على الإبصار والتمييز بين الأشكال، وذلك نتيجة لحرمانهم السابق إدراك المثيرات البصرية والتدريب على الطرائق الملائمة للاستجابة لها.
ومن الدراسات التي تُبين أثر حرمان التنبيهات في النمو، تلك الدراسات التي أُجريت على الأطفال الذين عُثر عليهم في الغابات وربوا أنفسهم أو ربتهم حيوانات كالذئاب والخنازير. بينت تلك الدراسات أن هؤلاء الأطفال كانوا بكماً ويسيرون على أربع، وكانت حواس السمع والشم والإبصار لديهم حادة كالحيوانات. وكانت عادات تناولهم للطعام مختلفة عن عادات الإنسان ومشابهة لعادات الحيوانات. ولم يُلاحظ عليهم سلوك البكاء أو الضحك، أو الشعور بالخجل من العري، أو الشعور الجماعي نحو الإنسان، بل كانوا يتجنبون بني الإنسان. كما كانت تعوزهم القدرة على الانتباه لما يحيط بهم إلا بالنسبة إلى ما يُشبع حاجاتهم، مثل سقوط ثمرة فاكهة على الأرض. وكان هؤلاء الأطفال عاجزين عن القيام بغالبية العمليات العقلية اللازمة للتعلم، كالتذكر والحكم والاستدلال والتقليد. هذا إضافة إلى أنهم كانوا محدودين في تفكيرهم.
كذلك أثبتت الدراسات التي أُجريت على أطفال رُبوا في الملاجئ أو في مستشفيات، أنهم كانوا أقل من نظرائهم الذي رُبوا في أسر بديلة، إذ تفوق أطفال الأسر البديلة في الذكاء والنمو اللغوي والنمو الجسمي وغير ذلك.
مما سبق يتضح الأثر السيئ لحرمان التنبيهات في النمو. هذا ويجب ملاحظة أن تأثير الحرمان يكون أكبر إذا كان مبكراً أي كلما كان الطفل صغير السن، ويكون أقل كلما كان الطفل كبيراً.
(2) البيئات الغنية بالمثيرات
وُضعت بعض الحيوانات في أماكن بها كثير من اللعب والأدوات والأجهزة لمدة من الزمن. وبملاحظتها تبين تحسن كثير من مظاهرها السلوكية، مثل قدرتها على التعلم والتمييز بين الأشياء.
كذلك بينت الدراسات أن البيئة الغنية بالمثيرات تؤدي إلى تحسن قدرات الأطفال الذين سبق تربيتهم في ملاجئ مزدحمة. ففي دراسة مقارنة بين مجموعتين من أطفال الملاجئ، نُقلت إحدى المجموعات قبل سن الثالثة للإقامة مع أسر بديلة ترعاهم، بينما تُركت المجموعة الأخرى بالملجأ كما هي. بمتابعة المجموعتين حتى الرشد، تبين تزايد ذكاء مجموعة الأسر البديلة على المجموعة التي ظلت في الملجأ. كذلك استطاع أفراد مجموعة الأسر البديلة الاعتماد على أنفسهم والاستقلال عن أسرهم اقتصادياً واجتماعياً، بينما ظل غالبية أفراد مجموعة الملجأ معتمدين على الحكومات والمساعدات.
ومن الدراسات التي أُجريت تبين أثر البيئات الغنية بالمثيرات في النمو، الدراسات التي أُجريت على التوأمين المتماثلتين مابل وماري. فقد انفصلت إحداهما عن الأخرى من سن خمسة أشهر، ورباهما أقاربهما. عاشت مابل في جهة ريفية في إحدى المزارع، وعاشت ماري في مدينة صغيرة تعمل كاتبة في الصباح وتدرس الموسيقى في المساء. حصلت مابل على تعليم أولي بمدرسة ريفية، وحصلت ماري على دراسة كاملة حتى المستوى العالي بمدرسة ممتازة بالمدينة. بينت الدراسات اختلاف التوأمين في الصفات الجسمية والعقلية والاجتماعية. فمن الناحية الجسمية كانت مابل قوية وفي صحة تامة، بينما كانت ماري نحيفة رقيقة وحالتها الصحية ضعيفة. ووُجد فارق في الذكاء في مصلحة ماري، فقد كانت نسبة ذكائها بمقياس استانفورد بينيه 106، في مقابل 89 لتوأمتها. كانت مابل الريفية تميل إلى الاستقرار الانفعالي، بينما كانت ماري تقلق لأتفه الأسباب.
كما بينت الدراسات والأبحاث تحسن نسبة ذكاء الأطفال الذين يعيشون في أُسر غنية متحضرة، ونقص نسب ذكاء أطفال الأُسر الفقيرة المحرومة إذا عاشوا مع أسرهم. وزيادة نسب ذكاء أطفال الأُسر الفقيرة إذا عزلوا عن أسرهم وأُلحقوا بأسر غنية أو بدور للحضانة.
وعلى هذا يمكن أن نستنتج أن البيئات الغنية بالمثيرات تؤدي إلى تحسن كثير من مظاهر السلوك وخاصة العقلي، إلا أنه لكي تؤدي تلك المثيرات إلى إحداث تغيير دائم في سلوك الأفراد، لا بد أن تكون كثيرة ومتعددة ولمدد طويلة.
تعليق
والآن نتساءل كيف يمكن تفسير أثر حرمان التنبيهات (أو العكس) في النمو؟
يمكن إجمال ما أسفر عن الدراسات في الآتي:
(1) إن حرمان الأم أو شخصية رئيسية في حياة الطفل، يؤدي إلى نقص ما يتعرض له الطفل من مثيرات لمسية وسمعية وحركية، مما يؤثر بدوره في حساسية الجهاز العصبي بصفة عامة للمثيرات، أو في المخ، أو في درجة تعقيد وظائف الهيبوثلاموس، أو قد يؤدي إلى خلل الأعصاب الموردة التي تحمل أثار التنبيه إلى المراكز العصبية، مما يؤثر في نشاطها، واستطراداً في النمو.
(2) إن تعرض الطفل لمثيرات متعددة في الصغر يساعد على نقص مستوى شدة الاستجابة الانفعالية للمثيرات الجديدة التي يواجهها عندما يكبر، وهذا بدوره يؤدي إلى تحسن الأداء السيكولوجي للشخص عند مواجهة المواقف الجديدة.
(3) إن تعرض الطفل لمثيرات متعددة في الصغر أو معيشته في بيئة غنية بالمثيرات، يؤدي إلى تحسن قدرته على التعلم، وذلك لأنه كلما أزداد عدد المثيرات أزدادت خبرات الطفل ونقص تهيبه عند التعرض للمثيرات الجديدة.
ج. التفاعل بين الوراثة والتنبيهات البيئية
(1) لا يمكن أن ينمو الكائن الحي إلى ما لا نهاية، لأن نموه محدود باستعداداته الموروثة، ويكون دور البيئة والتدريب والتنبيه هو تهيئة أفضل الفرص التي تساعد على تنمية هذه الاستعدادات. فإذا كان الشخص قد ورث استعداداً موسيقياً، فإن التدريب والتنبيه يظهره ويشحذه، أما نقص التدريب فيخمده ويطفئه.
(2) إن التفاعل بين الوراثة من الآباء والأجداد، والتعرض للتنبيهات والمثيرات البيئية هو الذي يسبغ على الفرد فرديته، ويوجد الفروق الفردية بين الأشخاص.
(3) إن فاعلية التنبيه والتدريب تتوقف على توقيته. فالطفل لا يمكنه تعلم أمر ما إذا لم يكن قادراً على التعلم، أي بلغ مستوى النضج العضوي والعقلي الملائم لتعلم الخبرة الجديدة. فإذا لم يكن قادراً فقد اهتمامه بتعلم تلك الخبرة، بل قد يفشل في تعلمها.
(4) إن التفاعل بين البيئة والوراثة يكون من اللحظة الأولى للتكوين. فالخصائص الوراثية من الآباء والأجداد تتفاعل مع خصائص وسن الأم الحامل وتغذيتها وحالتها الانفعالية، وما يصيبها من أمراض، وما تتناوله من عقاقير، وما تتعرض له من أخطار بيئية منذ اللحظة الأولى للتكوين، ويستمر هذا التأثير طوال فترة الحمل. وعند لحظة الميلاد تتدخل عوامل أخرى، مثل تعرض الجنين للضغوط، أو نقص في اندفاع الدم إلى المخ، في تشكيل ذلك التفاعل. وبعد الميلاد يأتي دور المثيرات البيئية، وصحة الطفل، والعوامل الاقتصادية والجغرافية والاجتماعية، في تشكيل هذا التفاعل. إن هذا من شأنه تشكيل الفروق الفردية وإبرازها.
5. واجبات النمو ومطالبه
حتى يتحقق للفرد نمو سوي، عليه أن يتعلم القيام ببعض المهام والواجبات وأداءها بما يتمشى مع ثقافته ونضجه الجسمي والنفسي، وأداء هذه الواجبات ذو أهمية في إشباع حاجات الفرد وتحقيقه لرغباته، واستطراداً في توافقه النفسي والاجتماعي.
تتميز تلك الواجبات أو المطالب أو المهام بأن لها أساسها البيولوجي، أي مستوى نضج الفرد العضوي. وأساسها الاجتماعي، وهو ثقافة المجتمع وقيمه. وأساسها النفسي، أي تَهَيُّئُه النفسي واستعداده. كما أن تلك الواجبات تختلف من ثقافة إلى أخرى، ومن مرحلة إلى أخرى. وأخيراً فإن بعض تلك الواجبات تحدث مرة واحدة، وبعضها الآخر يتكرر، كما تتعلق بجميع جوانب النمو ومظاهره. وفي ما يلي أمثلة لتلك المطالب أو المهام والواجبات.
أ. مطالب نمو عامة
(1) نمو واستغلال الإمكانات الجسمية واستغلالها إلى أقصى حد ممكن.
(2) تحقيق الصحة الجسمية.
(3) تحقيق النمو الأخلاقي والديني القويم.
(4) تحقيق الصحة النفسية.
ب. مطالب نمو خاصة بكل مرحلة
(1) مطالب نمو خاصة بمرحلة الطفولة
(أ) تعلم المشي والكلام.
(ب) تعلم ضبط الإخراج.
(ج) تعلم المهارات العقلية المعرفية اللازمة لشؤون الحياة اليومية.
(د) تكوين الضمير وتعلم التمييز بين الصواب والخطأ.
(2) مطالب نمو خاصة بمرحلة المراهقة
(أ) تقبل الدور الجنسي في الحياة.
(ب) تقبل المسؤولية الاجتماعية.
(ج) الاستعداد للزواج والحياة الأسرية.
(3) مطالب نمو خاصة بمرحلة الرشد
(أ) اختيار الزوج أو الزوجة.
(ب) تربية الأطفال.
(ج) تقبل الوالدين الشيوخ.
(د) تكوين فلسفة عملية للحياة.
(4) مطالب نمو خاصة بمرحلة الشيخوخة
(أ) التوافق بالنسبة إلى الضعف الجسمي والمتاعب الصحية.
(ب) التوافق بالنسبة إلى نقص الدخل.
(ج) التوافق مع موت الزوج أو الزوجة.
(د) التوافق مع الجيل التالي والأحفاد.
6. مراحل النمو
يسير النمو بجميع مظاهره وجوانبه في تتابع منتظم، تتألف مظاهره في سلم متعاقب الدرجات، ولكل خطوة في هذا التتابع خصائصها وسرعتها التي تميزها عن غيرها، وتأتي لاحقة بسابقتها وممهدة للاحقتها. وعلى الرغم من هذين الاستمرار والتداخل، تُقسم عادة بين مراحل. كما تُقسم السنة إلى فصول، على تداخلها، وكما تحدد لكل فصل من هذه الفصول بدءاً ونهاية تحديداً اصطلاحياً نظرياً لترسم مظاهره الرئيسية المميزة.
اختلفت الأسس التي يقوم عليها التقسيم بين مراحل، منها الأساس الغددي (أي نمو واضمحلال بعض الغدد)، وأساس تربوي (بناءً على المراحل التعليمية التي يمر بها الطفل)، وأساس اجتماعي (بناءً على تطور علاقات الفرد مع بيئته).
وثمة تقسيم رائد مستمد من الدراسة المتعمقة لعلم النفس والفهم العميق لمعاني القرآن الكريم، وذلك بناءً على ما يمر به الشخص وانتقاله من مرحلة الضعف (الجنينية والطفولة والمراهقة) إلى مرحلة القوة (الرشد) وأخيراً مرحلة الضعف (الشيخوخة وأرذل العمر). ويوضح الشكل التالي المراحل أو النموذج الكامل للنمو الإنساني من الوجهة الإسلامية.