الذكاء الشخصي
يُعد الذكاء الشخصي ذا أهمية خاصة، لأنه يعتمد على عمليات محورية تمكِّن الأفراد من التمييز بين مشاعرهم وبناء نموذج عقلي لأنفسهم؛ أي أنه يعمل كمؤسسة مركزية للذكاءات الأخرى. كما يُعد الذكاء الشخصي وفاعلية الذات، وجهان لعملة واحدة، إذ إن كليهما يعبر عن مدى وعي الفرد بذاته الداخلية.
بينت الدراسات أن هناك علاقة بين تقدير الذات والكفاءة الشخصية، أي أن ذوي التقدير العالي للذات لديهم كفاءة شخصية عالية أيضاً. كما وجدت علاقة بين الذكاء الشخصي والنجاح الدراسي، بل إن الذكاء الشخصي أساس للنجاح الدراسي.
ويسهم الذكاء الشخصي، مع ذكاءات أخرى، في كل من التعلم المدرسي، واكتشاف الموهوبين، وفي علاج صعوبات التعلم، والتربية الخاصة. فقد أُجريت دراسة على عينة من تلاميذ إحدى المدارس الابتدائية بالولايات المتحدة الأمريكية للتعرف على أثر التدريس باستخدام مبادئ نظرية "الذكاءات المتعددة"، مع التركيز على الذكاء الشخصي، كقدرة للعمل مع الآخرين. وأسفرت النتائج عن تحسن قدرات التلاميذ وزيادة فهمهم لأنفسهم. وكذلك ثَم دراسة مصرية عن أثر برنامج تعليمي قائم على نظرية الذكاءات المتعددة في تحصيل الرياضيات، لدى تلاميذ الحلقة الثانية من التعليم الأساسي المنخفضين تحصيلياً، تبين تحسن أداء أفراد العينة في الهندسة. وكان تأثير البرنامج في التحصيل الدراسي كبيراً.
للذكاء الشخصي أهمية كبيرة في معرفة الفرد لتكوينه الداخلي، أي لمشاعره وأحاسيسه وعمليات التفكير والإدراك لديه. كذلك يجعل الذكاء الشخصي الفرد متأملاً لذاته ومتمعناً في إمكانياته. كما أنه يمثل خير عون للناس على المثابرة، إذا اعترضت طريقهم العقبات أو واجهتهم الإحباطات، إذ يساعدهم على معرفة ما يستطيعون القيام به وما لا يستطيعون. وأخيراً فإن الذكاء الشخصي مكون أساسي في الذكاء المُنجح، الذي يؤدي إلى النجاح المهني والإنجاز في الحياة.
أولاً: المفهوم
مع تعدد تعريفات الذكاء الشخصي، توجد عدة مقومات بينها توضح طبيعته، أهمها:
1. قدرة داخلية لدى الفرد يستطيع بواسطتها معرفة أفكاره وإمكانياته ومشاعره وأحاسيسه. وتساعد هذه القدرة في تكوين الفرد لنموذج دقيق عن ذاته، واستخدام هذا النموذج في الحياة.
2. القدرة على التصرف في المواقف المختلفة، بما يتناسب مع إمكانات الفرد وقدراته.
3. قدرة الفرد على تحديد الواجبات، التي يجب القيام بها ومعرفة حقوقه.
4. قدرة الفرد على تحديد الأهداف الخاصة به، ووضع الخطط المناسبة لتحقيقها في ضوء إمكانياته وما هو متاح له، والإصرار على الوصول إلى النتائج التي يريد تحقيقها.
5. قدرة الفرد على التحكم في مشاعره الداخلية وأفكاره واستخدامه لعواطفه، والقدرة على تأديب الذات.
6. القدرة على استخدام التأمل النفسي، والتحليل الذاتي لفهم المشاعر الخاصة.
يتضح من العرض السابق تعدد تعريفات الذكاء الشخصي. ويرجع ذلك إلى أن الذكاء الشخصي تكوين فرضي لا يُدرك مباشرة، بل يُستدل عليه من آثاره. وقد أدى هذا إلى اختلاف النظرة إليه؛ فمثلاً يذكر جاردنر أن الذكاء الشخصي هو عملية عقلية تتضح من خلال قدرة الفرد على معرفة حالته الداخلية ومشاعره الحياتية ومدى انفعالاته، والتي تمكنه من التمييز بين انفعالاته، ويستمد منها أساليب الفهم وتوجيه السلوك. أما فؤاد أبو حطب، فيعرفه بأنه حسن المطابقة بين التقرير الذاتي للمفحوص عن عالمه الداخلي ومحكات موضوعية مرتبطة تقبل الملاحظة الموضوعية، ويمكن تقديره كماً وكيفاً بالمقارنة بين التقرير الذاتي والمحك.
كما يرجع تعدد التعريفات إلى وجود متغيرات متعددة تدخل في تكوينه، منها: مفهوم الذات، وتقدير الذات، وإدارة الذات، والثقة بالنفس، والوعي الذاتي.
ثانياً: خصائص الذكاء الشخصي
اختلف تحديد خصائص الذكاء الشخصي بناءً على النظرية التي حاولت تفسيره. يرى جاردنر أن من خصائص الذكاء الشخصي:
1. يركز على الجوانب الداخلية، وخصوصاً الجانب الوجداني منها، فهو مدخل جيد لفهم حياة الإنسان الوجدانية.
2. ينظر جاردنر للذكاء الشخصي على أنه عملية عقلية تتضح من خلال قدرة الفرد على فهم ذاته، وتكوين نموذج فعال عنها، وخصوصاً في الجانب الوجداني، والاعتماد على هذا النموذج في تنظيم الفرد لحياته، وتوجيه سلوكياته.
3. يعبر الذكاء الشخصي في أدنى مستوياته عن القدرة على تمييز الفرد لمشاعره الوجدانية، وخصوصاً جانب الألم/ السرور، تلك التي تتحدد في ضوئها سمات الفرد الشخصية كالانطواء/ الانبساط. أما أرقى مستوياته فتظهر في قدرة الفرد على اكتشاف وتنظيم مشاعره، في صورة مجموعات مترابطة.
4. يتسم الفرد ذو الذكاء الشخصي المرتفع، بالقدرة على فهم انفعالاته والاعتماد عليها في توجيه سلوكه. كما يميل إلى التفكير والتأمل، ويميل إلى أن يكون أكثر خصوصية.
5. يتصل الذكاء الشخصي بانعكاس الذات من خلال التأمل، والوعي بما وراء المعرفة، وإدراك الحالة الداخلية للفرد، كذلك يرتبط بالقدرة على التركيز، وتقييم الفرد لأفكاره.
ويرى فؤاد أبو حطب أن من خصائص الذكاء الشخصي:
1. ارتباط مفهوم الذكاء الشخصي بالناحية الإجرائية، أكثر من كونه تعريفاً نظرياً.
2. تتحدد بنية الذكاء الشخصي بثلاث عوامل فرعية، هي: الذكاء الشخصي الانفعالي، والذكاء الشخصي المعرفي، والذكاء الشخصي الاجتماعي.
3. تتسم بنية الذكاء الشخصي بالاستقرار والثبات النسبي.
4. يعد الذكاء الشخصي أحد خصائص أو سمات الشخصية، ويشترك مع الذكاء الموضوعي والاجتماعي في تكوين "الحكمة".
5. ثمة تفاعل بين الذكاء الشخصي والذكاءات المتعددة، بحيث يؤدي إلى تحسن الأداء المدرسي والدراسي وتقدير الذات والتفاعل الاجتماعي.
ثالثاً: سمات الأفراد ذوو الذكاء الشخصي المرتفع
بينت الدراسات أن الفرد الذي يتمتع بالذكاء الشخصي المرتفع يتميز بعدة خصائص، منها:
1. يعمل جيداً عندما يكون منفرداً.
2. لديه ثقة بالنفس.
3. إدراك واقعي لنقاط القوة والضعف.
4. لديه اهتمامات خاصة، لا يعرفها غيره.
5. يعرف حاجياته الخاصة ويسعى إلى تحديدها.
6. يعبر بدقة ووضوح عن مشاعره وأحاسيسه.
7. لديه اعتزاز بالنفس وثقة واحترام عالٍ لها.
8. واقعي، ولا يخلط بين الواقع والخيال.
9. مستقل في إدارة أعماله وحل مشاكله.
10. يميل إلى الألعاب التي تتطلب تركيزاً.
11. يذكر أحداثاً كان له فيها مواقف معينة.
12. أسئلته تعكس خيالاته وتأملاته.
13. يحب قضاء وقته منفرداً.
14. يفكر في أحلامه وأهدافه الخاصة.
15. يفضل البقاء منفرداً على الانضمام إلى شلة جماعية.
16. قادر على التعلم في ضوء إخفاقاته ونجاحاته في الحياة.
17. لديه إحساس جيد بتوجيه الذات.
18. يظهر إحساساً بالاستقلال وإرادة قوية.
رابعاً: علاقة الذكاء الشخصي بالذكاء الاجتماعي
ثمة تداخل بين مفهوم الذكاء الشخصي والذكاء الاجتماعي، إذ يؤكد بعض الباحثين على أهمية العلاقة بينهما، على الرغم من عدم استخدام الباحثين لهذه المصطلحات على نحو صريح. وهذا ما أشار إليه وليم جيمس، حين أكد أن الشعور بالذات هو في جوهره خبرة اجتماعية؛ إلاّ أن بعض الباحثين أشاروا إلى أن العلاقة في الاتجاه العكسي، فإدراك الشخص للآخرين يتطلب من الشخص المُدرك أن يتوافر لديه قدر كافٍ من الاستبصار بدوافعه ومشاعره.
إذا كان الذكاء الشخصي يتضمن المشاعر داخل الفرد، فالذكاء الاجتماعي يعني قدرة الفرد على فهم الآخرين، إلا أن هناك ترابطاً بينهما، وذلك لوجود تفاعل بين المشاعر داخل الفرد وقدرته على فهم الآخرين. وإذا كان الذكاء الشخصي يتعلق بالوعي بالذات، فإن الذكاء الاجتماعي يتضمن إدراك الأشخاص في مواقف التفاعل الإنساني.
مما سبق يتضح اختلاف وجهات النظر عن علاقة الذكاء الشخصي بالذكاء الاجتماعي، ويرجع ذلك إلى اختلاف النظريات. وقد وضع جاردنر نظرية الذكاءات المتعددة، ووضع فؤاد أبو حطب نظرية في الذكاء في إطار علم النفس المعرفي. وثمة عامل آخر وهو وجود علاقة ارتباطية بين الذكاء الشخصي والذكاء الاجتماعي، وفي الوقت نفسه وجود تمايز جزئي بين الذكاء الشخصي والذكاء الموضوعي والذكاء الاجتماعي.
تعقيب
إذا كان الذكاء الشخصي هبة إلهية، فإن الله قد منحها لعباده لكي يفهموا أنفسهم ويوجهوا مشاعرهم، على نحو يحقق لهم النجاح في الحياة.
تلك الهبة لا تتضمن جانباً معرفياً فقط، بل وجانباً وجدانياً أيضاً؛ فكما تتضمن الإدراك والفهم والتأمل، تتضمن التحكم في المشاعر وتوجيه العواطف.
تلك الهبة منحها الله للناس بدرجات متفاوتة، تجعل غالبية الناس متوسطين في الذكاء، والأقلية مرتفعين فيه، وأقلية ثانية منخفضين. وهذا يلقي ضوء على توصية الرسول e بأن نخاطب الناس على قدر عقولهم.
يمكن استخدام الذكاء الشخصي في تصنيف الناس في فئات؛ فئة يتطابق رأيها مع أدائها الفعلي، وفئة يرتفع أداؤها عن مستوى آرائها، وفئة يرتفع مستوى آرائها عن أدائها. الفئة الأولى هم الواقعيون الذين يقدرون أنفسهم حق قدرها، والفئة الثانية يقدرون أنفسهم بأقل من قدرها، أما الفئة الثالثة فهم فئة المغرورين المبالغين في وجهة نظرهم نحو ذواتهم، بينما ينخفض أداؤهم.
والذكاء الشخصي ليس تكويناً أحادياً، إذ إن له مكونات، منها: الالتزام والتقدير الذاتي. وهذا يوضح أن التفاوت بين الأفراد يكون بناءً على تفاوت درجات تلك المكونات، ونصيب الفرد من كل منها.
وأخيراً، فإن تفاعل الذكاء الشخصي مع الذكاءات الأخرى أثناء تسيير أمور حياة الإنسان، يقدم دليلاً على وحدة الشخصية الإنسانية، وأن محاولات تقسيمها هي محاولات من أجل الدراسة والفهم والتحليل.