كتبه د. حسان المالح
مما لاشك فيه أن الحديث عن هذا الموضوع أمر هام ومفيد.. وأيضاً فيه كثير من الإثارة والتشويق.. ذلك لأنه يتطرق إلى نظرات سلبية وشائعة إلى أمور الطب النفسي ومن يمارسه في مجتمعاتنا العربية.والحقيقة البسيطة هي أن الطبيب النفسي أو المعالج النفسي إنسان يشبه الآخرين في الصحة والمرض.. ويمكن له أن يصاب بالاضطراب النفسي مثله في ذلك مثل من يمارس مختلف المهن الطبية أو العلاجية الأخرى
وهذه حقيقة صادمة لمشاعرنا وخيالنا الذي يعتبر المعالج أو الطبيب (مهما كان اختصاصه) مثالاً منزهاً أو أسطورياً, مما يذكر بنظرة الطفل إلى عظمة الأب أو الأم بشكل خيالي وغير واقعي.
وإذا مرض طبيب القلب فهذا غير مستبعد ولا يجعلنا نفقد الثقة في أهمية طب القلب, ومثل ذلك زكام طبيب الأنف الذي نقبله عادة.. وهكذا نجد أن الطبيب يمكن له أن يمرض.. ومن الخطأ أن نعتبر "أن المعالج يجب أن لا يمرض".
وتدل الملاحظات على أن ممارسة الطب النفسي فيها ضغوط كثيرة... فالمعالج يهتم بمشكلات الإنسان واضطراباته وآلامه.
وينتظره يومياً مواجهة هذه المشكلات والاستماع لها ومحاولة التخفيف من آثارها وعلاجها.. والمعالج النفسي يمارس احتكاكاً عميقاً بالجانب المؤلم والمظلم في حياة البشر ومسؤوليته تتلخص في تقديم العون وعلاج المشكلات... وبالطبع فإن مهنة الطب النفسي تختلف عن مهنة "بائع الورد", ويمكن لها أن تشكل نوعاً من الضغط والإرهاق على من يمارسها, مما يستدعي من الطبيب النفسي أن يتكيف مع هذه الضغوط وأن يتعامل معها.. وهنا تختلف شخصية الأطباء ونمط تفكيرهم وقدراتهم العامة.. وبعضهم ممكن يشكو ضعفاً معيناً يمكن له أن يتعرض للاضطراب النفسي.
وتدل الدراسات الغربية أن أكثر الاضطرابات شيوعاً هي القلق والاكتئاب ويشترك في ذلك عدد من المهن الطبية الأخرى وغير الطبية.
وقد أشارت إحدى الدراسات إلى أن نسبة الانتحار عند من يمارسون المهن الطبية تبلغ أعلاها عند الأطباء الاختصاصين في التخدير.. ويحتل الأطباء النفسيون المركز الثالث.
ويمكننا القول أن هناك مهناً صعبة وأخرى أقل صعوبة.. ولا توجد مهنة سهلة أبداً ومن المعروف أن بعض المهن الإدارية والتجارية تؤدي لازدياد أمراض القلب والذبحة الصدرية المفاجئة... كما أن بعضها الآخر يرتبط بازدياد استعمال المواد الكحولية والمخدرة مثل بعض المهن الأدبية والصحفية والفنية وغير ذلك.. ويختلف ذلك بالطبع وفقاً لتركيبة المجتمع وثقافته وظروفه.
والحقيقة أن القاعدة العلمية والمنطقية هي أن "كل تعميم خطأ" والمشكلة أن النظرات الوهمية والسطحية هي في أغلبها تعميمات لا تستند إلى المنطق الصحيح.
ومن الخطأ أن نعتبر أن "الطبيب النفسي أو الأخصائي النفسي وكل من له علاقة بالأمور النفسية هو مريض نفسي".
بل ربما يكون العكس هو الصحيح.. لأن الخبير النفسي لديه من العلم والخبرة والمعرفة ما يمكنه من حل مشكلاته بصورة أفضل من غير المتخصصين... ويمكنه أن يتعامل مع المشكلات الشخصية والحياتية التي يتعرض لها بشكل أحسن بحكم التخصص والخبرة, كما أن التعامل مع مشكلات الآخرين يمكن أن يؤدي إلى الوقاية من عدد من الاضطرابات والمشكلات لأن المعالج يكتسب خبرة وفهماً عن كيفية حدوث المشكلات وعن علاجاتها من خلال الآخرين.
ومن المعروف أن "الحدّاد" الذي يتعامل يومياً مع الحديد بمطرقته تتحسسن عضلاته, وقدراته الجسدية من خلال مهنته.. وهكذا فالطبيب النفسي يمكن أن تصبح أعصابه وقدراته النفسية أقوى.
وبشكل علمي وواقعي يمكننا أن نقول إن بعض الأشخاص ممن اتجه نحو التخصص في العلوم النفسية أو الطب النفسي يعاني من اضطراب معين أو مشكلات خاصة... وهو يظن أنه بدخوله في مجال التخصص النفسي فإنه سيتمكن من أن يحل مشكلاته الخاصة به, وقد ينجح البعض في ذلك, ولكن بعضهم الآخر يزداد اضطرابه, ومنهم من لا يستطيع متابعة اختصاصه ومنهم من يغير مهنته بعد الممارسة فترة من الزمن. وأيضاً يمكن أن نجد بين الأطباء النفسيين من هو غريب في طباعه أو شخصيته ولكن ليس بدرجة شديدة تصل إلى الاضطراب النفسي العيادي, وقد يعود ذلك إلى صفات شخصية أو أزمات معينة.. وربما تساعد النظرات السلبية المنتشرة في المجتمع على بروز مثل هذه الصفات أو الاهتمام بها وتضخيمها.
وربما نجد مثل هؤلاء الغرباء أو غريبي الأطوار في معظم المهن الأخرى وفي الحياة اليومية العادية إذا دققنا النظر واستعملنا العدسات المكبرة... والتي نستعملها عادة في نظرنا لكل من هو نفساني.
وأما في حالة إصابة الطبيب النفسي بحالة نفسية معينة فلابد له من بذل جهوده الخاصة أولاً ومحاولته السيطرة على الأعراض المرضية, وفي حالة تفاقم الحالة وعدم استجابتها يمكنه مراجعة طبيب آخر للمشاورة والعلاج ولا يختلف في ذلك عن الطبيب الباطني أو أي اختصاصي آخر يشكو من مشكلة صحية أو نفسية.
وتدل الملاحظات العيادية النفسية على وفرة عدد المراجعين من مختلف الاختصاصات الطبية الأخرى وطلاب الطب والمهن الطبية المساعدة... بينما يقل عدد النفسانيين بشكل عام.. وربما يكون ذلك في بلادنا فقط لقلة الأطباء النفسيين والاختصاصين في العلوم النفسية وتختلف الصورة نسبياً في المجتمعات الأخرى.
والحقيقة أن مجال الطب النفسي والعلوم النفسية لا يزال يحاط بكثير من الغموض وسوء الفهم والنقاط السلبية وهناك حالات عجيبة ومعلومات خاطئة وأساطير في عقول الكثيرين.
وتشكل السخرية من مجال الطب النفسي إحدى هذه النقاط السلبية ويعبر عن ذلك عادة بعدد من النكات والنوادر... وتأتي بعض الأفلام السطحية والمسلسلات التلفزيونية لتؤكد على غرابة شخصية الطبيب النفسي وشذوذه في المظهر والكلام...
وأيضاً "أن باب النجار مخلوع" أي أن المعالج نفسه يشكو من مشكلات نفسية خطيرة. ولابد من النظرة الواعية والعلمية كي نفهم مجال الطب النفسي وما يمكن أن يقدمه لنا من خدمات واضحة وضرورية ويومية.
ولابد من أن تتغير بعض النظرات السلبية من خلال الوعي العلمي والتفكير الواقعي والتجربة العملية, ويمكن أن يلعب الأطباء النفسيون وغيرهم من النفسانيين دوراً إيجابياً في ذلك من خلال سلوكهم المعتدل والمتوازن وجهودهم في انتشار الوعي الصحي, وأيضاً في تفهمهم للآخرين ومخاطبتهم بشكل مفهوم وبناء.
وأخيراً لابد من توفير الدعم الكافي للطب النفسي والعلوم النفسية الأخرى والتخفيف من الأعباء والضغوطات التي يتعرض لها كل من يمارس العلاج النفسي بمختلف أشكاله..
ويمكن أن يكون ذلك من خلال المؤسسات الطبية والجمعيات المهنية والنوادي العلمية, التي تناقش المشكلات الخاصة لدى الممارسين وتضع الخطوط العامة المفيدة والمتطلبات الأساسية للممارسة النفسية العلاجية, وتبحث في تقديم الحلول الناجحة والعلمية التي ترقى بهذا المجال الطبي العلاجي وما يرتبط به من خدمات مساندة إلى أعلى درجات الأداء والفعالية... وفي ذلك ما يضمن الخير والفائدة للجميع