من نوادر القصص..
مما يُحكى عن عدالة ونزاهة وورع الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، رضي الله عنه، أن دخلت ابنته عليه في يوم عيد وهي تبكي، وكانت صغيرة، فسألها عمر: ما يبكيك؟ فقالت: كل الأطفال يرتدون ثياباً جديدة، وأنا ابنة أمير المؤمنين أرتدي ثوباً قديماً!.
تأثر عمر لبكائها ورق قلبه، فذهب إلى مسؤول بيت المال يستأذنه في صرف مستحقاته أو راتبه الشهري المقرر له كخليفة، ولكن عن الشهر المقبل، أو ما نسميها اليوم، سلفة بضمان الراتب.. فلم يمانع المسؤول المالي أو وزير ماليته في تلبية الطلب، ولكن سأله عن السبب، فقص عليه عمر قصة ابنته..
قال له المسؤول المالي: لا مانع عندي يا أمير المؤمنين ولكن بشرط.. فقال عمر: وما هو؟
قال: أن تضمن لي أن تبقى حياً حتى الشهر المقبل، كي تعمل بالأجر الذي تريد صرفه مسبقاً!!.
فأعاد عمر النظر في الطلب، ثم تركه وعاد إلى بيته، فسأله أبناؤه: ماذا فعلت؟ قال: أتصبرون وندخل الجنة جميعاً أم لا تصبرون ويدخل أباكم النار؟ قالوا نصبر!.
لا أستغرب القصة مطلقاً، فكلنا يعلم من هو عمر بن عبد العزيز، الذي أعاد سيرة جده لأمه، الفاروق عمر بن الخطاب، الذي تحفل سيرته بقصص أشبه بالخيال.. وكل أحد منهما كان بمثابة أقوى رئيس دولة بالعالم حينذاك.. لكن السؤال: كيف استطاع العمران ضبط أنفسهما وأهليهما بالصورة التي تحكي كتب السير عنهم؟.
المسألة ليست سهلة بالسهولة التي نحكي أو نكتب عنها، فأن تكون صاحب القرار الأول في الإمبراطورية، وتسيطر على أموال وأملاك، والإمبراطورية كلها بمن فيها تحت إمرتك، ثم تخاف من صرف درهم أو دينار، بل تستأذن قبل الصرف وتدري أنه لن يسألك سائل، لم تصرف وفي ماذا تصرف، بل قبل ذلك من يجرؤ على السؤال.. كل هذا يدل على أن تربية العُمرين لم تكن اعتيادية، ونفوسهما لم تكن في مستوى النفوس البشرية، بل أحسبُ أنهما إلى الملائكية أقرب.. ولعل هذه من أسباب خلود ذكراهما إلى يومنا هذا وإلى ما شاء الله أن يكون..
إنهما نماذج للتربية الحقّة أو الإدارة بالنماذج.. ولا أقول هذا لنقتدي بهما ونعيد أفعالهما، فالأمر خيالي إن أردنا الدقة في التعبير، ولكن محاولة استلهام بعض المواقف من حياتهما لتشجيع نفوسنا وغيرنا، سأعتبرها محاولة رائعة لو قمنا بها في بيوتنا قبل مدارسنا ومجتمعاتنا.