إن الجامع الصحيح للإمام الحافظ "أبي الحسن مسلم بن الحجاج القشيري الشافعي" المتوفى سنة إحدى وستين ومئتين، وهو أحد الصحيحين اللذين هما أصح الكتب بعد كتاب الله تعالى، والثاني من الأصول الستة.
وكما هو شائع ومشتهر بين الناس أنَّ أصحَّ كُتبِ الحديثِ: البخاريُّ ثم مسلمٌ، يقول ابن كثير: أول من اعتنى بجمع الصحيح: أبو عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري، وتلاه صاحبه وتلميذه أبو الحسن مسلم بن الحجاج النيسابوري. فهما أصح كتب الحديث، والبخاري أرجح، لأنه اشترط في إخراجه الحديث في كتابه هذا: أن يكون الراوي قد عاصر شيخه وثبت عنده سماعه منه، ولم يشترط مسلم الثاني، بل اكتفى بمجرد المعاصرة.
ومن هنا ينفصل لك النزاع في ترجيح تصحيح البخاري على مسلم، كما هو قول الجمهور، خلافاً لأبي علي النيسابوري شيخ الحاكم، وطائفة من علماء المغرب؛ ثم إن البخاري ومسلماً لم يلتزما بإخراج جميع ما يحكم بصحته من الأحاديث، فإنهما قد صحَّحا أحاديث ليست في كتابيهما، كما ينقل الترمذي وغيره عن البخاري تصحيح أحاديث ليست عنده، بل في السنن وغيرها. اهـ.
وعلى هذا: فالصحيحُ ينقسمُ إلى سبعةِ أقسامٍ: أحدُها: -وهو أصحُّها - ما أخرجَه البخاريُّ ومسلمٌ، وهو الذي يُعبِّرُ عنه أهلُ الحديثِ بقولهم: "متفقٌ عليه"؛ والثاني: ما انفردَ به البخاريُّ، والثالثُ: ما انفردَ به مسلمٌ، والرابعُ: ما هو على شَرْطِهِما ولم يخرِّجُهُ واحدٌ منهُما، والخامسُ: ما هو على شرطِ البخاريِّ وَحْدَهُ، والسادسُ: ما هو على شرطِ مسلمٍ وَحْدَهُ، والسابعُ: ما هو صحيحٌ عند غيرهما من الأئمةِ المعتمدينَ، وليسَ على شرطِ واحدٍ منهُما.
ولأهمية هذه الكتب عمل الكثير من العلماء والمسلمين على تحقيقهم وشرحهم منهما يمثلان مع القرآن الكريم أصول دين الإسلام وأكثر شرائعه وأحكامه وأموره وأيامه ومن هؤلاء العلماء الذين عملوا على صحيح مسلم الإمام الحافظ "أبي زكريا يحيى الدين يحيى بن شرف النووي الشافعي" المتوفى سنة ست وسبعين وست مئة، حيث قام بشرحه وأسماه "المنهاج في شرح صحيح مسلم بن الحجاج" وهو شرح متوسط مفيد.
وقال فيه: وأما "صحيح مسلم"، فقد استخرت الله الكريم في جمع كتابٍ في شرحه، متوسط بين المختصرات والمبسوطات، لا من المختصرات المخلات، ولا من المطولات المملات، ولولا ضعف الهمم وقلة الراغبين، وخوف عدم إنتشار الكتاب لقلة الطالبين للمطولات، لبسطته فبلغت به ما يزيد على مائة من المجلدات، من غير تكرار ولا زيادات عاطلات، بل ذلك لكثرة فوائده وعظم عوائده الخفيات والبارزات، وهو جدير بذلك، فإنه كلام أفصح المخلوقات، صلى الله عليه وسلم صلوات دائمات، لكني أقتصر على التوسط وأحرص على ترك الإطالات، وأؤثر الإختصار في كثيرٍ من الحالات، فأذكر فيه إن شاء الله جملاً من علومِه الزَّاهرات، من أحكام الأصول والفروع والآداب والإشارات الزهديات، وبيان نفائس من أصول القواعد الشرعيات، وإيضاح معاني الألفاظ اللغوية وأسماء الرجال وضبط المشكلات، وبيان أسماء ذوي الكنى وأسماء آباء الأبناء والمبهمات، والتنبيه على لطيفة من حال بعض الرواة وغيرهم من المذكورين في بعض الأوقات، وإستخراج لطائف من خفيات علم الحديث من المتون والأسانيد المستفادات، وضبط جمل من الأسماء المؤتلفات والمختلفات، والجمع بين الأحاديث التي تختلف ظاهراً ويظن بعض من لا يحقق صناعتي الحديث والفقه وأصوله كونها متعارضات، وأنبِّه على ما يحضرني في الحال في الحديث من المسائل العمليات، وأشير إلى الأدلة في كل ذلك إشارات إلاَّ في مواطن الحاجة إلى البسط للضرورات، وأحرص في جميع ذلك على الإيجاز وإيضاح العبارات.
وقد اعتنى بتحقيق هذا الشرح الأستاذ "موفق مرعي" وكان وفق ما يلي: ذكر مقدمة هامة ومختصرة عن كتاب الإمام مسلم، نقلها عن العلماء المحققين، وهذه المقدمة تتعلَّق: بتأليف الصحيح، وموضوعه، وشرطه، وتبويبه، ومكانته، إلى غير ذلك، ضبط متن صحيح مسلم ومقابلته على أصلٍ مقابل على ثلاث نسخٍ، مقابلة الشرح كاملاً على مخطوطتين، ترقيم الأحاديث في المتن والشرح، اعتمد في ترقيم أحاديث الشرح الرقم المسلسل، أحياناً وكما هو ملاحظ من شرح الإمام النووي، أنه يجمع في شرحه بين حديثين أو أكثر، فكان يجمع أيضاً أرقام الأحاديث المشروحة، زيادة في البيان والإيضاح، وضع في يمين الباب الذي في المتن رقمه في المعجم المفهرس، ووضع في يساره رقمه في تحفة الأشراف، تخريج أحاديث المتن على الكتب الخمسة: البخاري، أبو داود، النسائي، الترمذي، ابن ماجه، شرح لبعض الألفاظ الغريبة، العزو إلى أهم مصادر الشارح في بعض الأحيان، وأشار إلى رقم الجزء والصفحة، تخريج الأحاديث التي في الشرح وعزوها إلى مصادرها، الكلمات التي يجوز فيها أكثر من إعراب، أو يجوز في بعضها أكثر من حركة، وضع عليها تلك الحركات، وضع فهرس عام لأطراف الاحاديث والآثار، واعتمد