ثم سار بهم موسى، عليه السلام متوجها نحو الأرض المقدسة، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب، فأمرهم بالذي أمر به أن يبلغهم من الوظائف، فثقل ذلك عليهم، وأبوا أن يقروا بها، فنتق الله عليهم الجبل كأنه ظلة، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ينظرون إلى الجبل، والكتاب بأيديهم، وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم. ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون خَلْقُهُم خَلْق منكر - وذكروا من ثمارهم أمرًا عجيبًا من عظمها- فقالوا:يا موسى إن فيها قومًا جبارين، لا طاقة لنا بهم، ولا ندخلها ما داموا فيها، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون. قال رجلان من الذين يُخَافُون- قيل ليزيد:هكذا قرأه؟ قال:نعم من الجبارين، آمنا بموسى، وخرجا إليه، فقالوا:نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم، فإنهم لا قلوب لهم ولا مَنَعَة عندهم، فادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون- ويقول أناس:إنهم من قوم موسى. فقال الذين يخافون، بنو إسرائيل: [ قَالُوا ] يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ [ المائدة:24 ] فأغضبوا موسى، فدعا عليهم وسماهم فاسقين، ولم يدع عليهم قبل ذلك، لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم حتى كان يومئذ فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم فاسقين، فحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض، يصبحون كل يوم فيسيرون، ليس لهم قرار، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه، وأنـزل عليهم المنّ والسلوى، وجعل لهم ثيابًا لا تبلى ولا تتسخ، وجعل بين ظهرانيهم حجرًا مربعًا، وأمر موسى فضربه بعصاه. فانفجرت منه اثنتا عشرة عينًا، في كل ناحية ثلاث أعين، وأعلم كل سِبْط عينهم التي يشربون منها، فلا يرتحلون من مَنْقَلَة إلا وجدوا ذلك الحجر معهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس. رفع ابن عباس هذا الحديث إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وصَدَّقَ ذلك عندي أن معاوية سمع ابن عباس يحدث هذا الحديث، فأنكر عليه أن يكون الفرعوني الذي أفشى على موسى أمر القتيل الذي قتل، فقال:كيف يُفْشي عليه ولم يكن علم به ولا ظهر عليه إلا الإسرائيلي الذي حضر ذلك؟. فغضب ابن عباس، فأخذ بيد معاوية فانطلق به إلى سعد بن مالك الزهري، فقال له:يا أبا إسحاق، هل تذكر يوم حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتيل موسى الذي قتل من آل فرعون؟ الإسرائيلي الذي أفشى عليه أم الفرعوني؟ قال:إنما أفشى عليه الفرعوني، بما سمع من الإسرائيلي الذي شهد على ذلك وحضره. هكذا رواه الإمام النسائي في السنن الكبرى، وأخرجه أبو جعفر بن جرير وابن أبي حاتم في تفسيريهما كلهم من حديث يزيد بن هارون به وهو موقوف من كلام ابن عباس، وليس فيه مرفوع إلا قليل منه، وكأنه تلقاه ابن عباس، رضي الله عنه مما أبيح نقله من الإسرائيليات عن كعب الأحبار أو غيره، والله أعلم. وسمعت شيخنا الحافظ أبا الحجاج المزي يقول ذلك أيضًا. فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ( 40 ) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ( 41 ) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ( 42 ) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ( 43 ) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ( 44 ) يقول تعالى مخاطبًا لموسى، عليه السلام:إنه لبث مقيمًا في أهل « مدين » فارًا من فرعون وملئه، يرعى على صهره، حتى انتهت المدة وانقضى الأجل، ثم جاء موافقًا لقدر الله وإرادته من غير ميعاد، والأمر كله لله تبارك وتعالى، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء؛ ولهذا قال: ( ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا [ مُوسَى ] ) قال مجاهد:أي على موعد. وقال عبد الرزاق، عن مَعْمَر، عن قتادة في قوله: ( ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى ) قال:على قدر الرسالة والنبوّة. وقوله: ( وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي ) أي:اصطفيتك واجتبيتك رَسُولا لنفسي، أي:كما أريد وأشاء. وقال البخاري عند تفسيرها:حدثنا الصَّلْتُ بن محمد، حدثنا مهديّ بن ميمون، حدثنا محمد ابن سِيرين عن أبي هريرة، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « التقى آدم وموسى، فقال موسى:أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة؟ فقال آدم:وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه، وأنـزل عليك التوراة؟ قال:نعم. قال:فوجدتَه قد كتب عَليّ قبل أن يخلقني؟ قال:نعم. فحَجّ آدم موسى » أخرجاه . ( اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي ) أي:بحُجَجي وبراهيني ومعجزاتي، ( وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي ) قال علي ابن أبي طلحة عن ابن عباس:لا تُبْطئا. وقال مجاهد، عن ابن عباس:لا تَضْعُفا. والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله، بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكرُ الله عونًا لهما عليه، وقوّة لهما وسلطانًا كاسرًا له، كما جاء في الحديث: « إن عبدي كل عبدي للذي يذكرني وهو مُنَاجِز قِرْنه » . ( اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى ) أي:تمرّد وعتا وتَجَهْرم على الله وعصاه، ( فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) هذه الآية فيها عبرة عظيمة، وهو أن فرعون في غاية العتو والاستكبار، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك، ومع هذا أمر ألا يخاطب فرعون إلا بالملاطفة واللين، كما قال يزيد الرقاشي عند قوله: ( فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا ) :يا من يتحبب إلى من يعاديه فكيف بمن يتولاه ويناديه؟ وقال وهب بن مُنَبه:قولا له:إني إلى العفو والمغفرة أقربُ مني إلى الغضب والعقوبة. وعن عكرمة في قوله: ( فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا ) قال:لا إله إلا الله، وقال عمرو بن عبيد، عن الحسن البصري: ( فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا ) أعْذرا إليه، قولا له:إن لك ربًا ولك معادًا، وإن بين يديك جنة ونارا. وقال بقيَّة، عن علي بن هارون، عن رجل، عن الضحاك بن مُزَاحم، عن النـزال بن سَبْرَة، عن علي في قوله: ( فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا ) قال:كَنِّه. وكذا روي عن سفيان الثوري:كَنّه بأبي مُرَّة. والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين قريب سهل، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع، كما قال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ الآية [ النحل:125 ] . [ قوله ] ( لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) أي:لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة، ( أَوْ يَخْشَى ) أي:يُوجد طاعة من خشية ربه، كما قال تعالى:( لمن أراد أن يذكر أو يخشى ) فالتذكر:الرجوع عن المحذور، والخشية:تحصيل الطاعة. وقال الحسن الب5ري [ في قوله ] لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ) يقول:لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون:أهْلكْه قبل أن أعذر إليه. وهاهنا نذكر شعر زيد بن عمرو بن نفيل، ويروى لأمَيّة بن أبي الصَّلْت فيما ذكره ابن إسحاق:وأنـت الـذي من فضـل مَـنٍّ ورحمة بعثـت إلـى موســى رسـولا مناديا
فقلـت لـه يـا اذهب وهارون فادعُوَا إلـى اللـه فرعـون الذي كـان باغيا
فقـولا لـه هــل أنت سوّيـت هـذه بــلا وتــد حتـى استقلت كمـا هيا
وقـــولا لــه آأنت رَفَّعت هـــذه بـــلا عمـد? أرفـق إذن بك بـانيا
وقــولا لــه آأنت سويــت وسطها مـنـيرًا إذا مـا جَنَّه الليـل هـاديــا
وقــولا لـه من يخرج الشمس بكـرةً فيصبـح ما مست مـن الأرض ضاحيـا
وقـولا لـه من ينبت الحب في الثـرى فـيصبـح منــه البقـل يهـتـز رابيا
ويخــرج منـه حبـه فـي رءوسه ففــي ذاك آيـــات لمن كان واعيا