يونس بن عبيد.. القدوة في البيع والشّراء
إنّ وجود القدوة الحسنة في الحياة ضرورة لابدّ منها، ليحتذى بها الإنسان ويكتسب منها المعالم الإيجابية لحركته في الحياة، سواء مع الله تعالى في أداء العبادات والفرائض، أو مع النّفس وتزكيتها وتدريبها على الأخلاق الفاضلة، أو مع الأهل والأبناء داخل الأسرة
جعل الله سبحانه وتعالى الرّسول صلّى الله عليه وسلّم قدوة ونموذجًا يجسّد الدّين الّذي أرسل به، حتّى يعيش النّاس مع هذا الدّين ورسوله واقعًا حقيقيًا بعيدًا عن الأفكار المجرّدة، فكان النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خير قدوة للأمّة في تطبيق هذا الدّين ليكون منارًا لها إلى يوم القيامة، يقول الله تبارك وتعالى: ”لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ”.
غير أنّ القراءة الانتقائية للتّاريخ الإسلامي الّتي حصرت القدوة في مظاهر الصّلاة الطّويلة والصّوم المتواصل أصابت المسلم المعاصر بشيء من الإحباط، وجعلته يضعف في اتّخاذ السّابقين له قدوة، معلّلاً ذلك بقوله: ”لكلّ زمان رجاله”، وحتّى مَن اقتدى بهم فإنّه قصّر مفهوم الإسلام في هذه المظاهر، ولم ينتبه للخلل في بقية جوانب حياته.
فمن الشّخصيات الّتي تصلح قدوة للمسلم المعاصر هو التّابعي الجليل ”يونس بن عبيد” رضي الله عنه، فلم يكن رضي الله عنه ممّن اشتهروا بالعلم، ولا من أولئك الّذين نقلت عنهم كتب السِّيَر أخبار خارقة في العبادة، وإن كان له في كلا الأمرين نصيب. كما أنّه لم يكن من المجاهدين حيث لم يكن يحسن الجهاد، بل كان تاجرًا، ومع انشغاله بالتّجارة وبشؤون السّوق بلغ شأنًا عظيمًا في باب الزُّهد والورع، حتّى قال له أحد المجاهدين: ”والله إنّا نكون في نحر العدوّ، فإذا اشتدّ علينا الأمر قلنا: اللّهمّ ربّ يونس فرّج عنّا، فيُفرّج عنّا”.
قال عنه الإمام الذّهبي في ”سير أعلام النّبلاء”: ”الإمام القدوة، الحجّة، من صغار التّابعين وفضلائهم، رأى أنس بن مالك، وحدّث عن الحسن، وابن سيرين، وعطاء، وعِكرمة، ونافع مولى ابن عمر.. وجماعة، وحدّث عنه خلق كثير”.
وقد تميّزت شخصية ”يونس بن عبيد” رضي الله عنه بعِدّة ملامح وضعته في مصاف المشاهير بالزّهد والعبادة، على الرّغم من أنه لم يكن منقطعًا للعِبادة تاركًا للدّنيا، وأهم ما ميّز شخصية يونس بن عبيد قيامه بحقوق الله وحقوق العباد، روى أهل السِّيَر عن سلام بن أبي مطيع قال: ”ما كان يونس بأكثرهم صلاة ولا صومًا، ولكن لا والله ما حضر حقّ من حقوق الله إلّا وهو متهيِّئ له”. والورع الّذي يعدّ من الأعمال الشّرعية الّتي غفل عنها المسلمون اليوم، عرّفه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في كلمة واحدة فقال: ”مِن حُسْن إسلام المرء تَرْكُه ما لا يُعنِيه”. فمنه ما هو واجب وهو ترك المحرّمات، ومنه ما هو مستحبّ. وممّا يُحسَب لهذا التّابعي الجليل موقفه ممّا ساد بين التّجار بما عرف بقانون العرض والطلب، والّذي يجيزون به مضاعفة الرِّبح في البيع والشّراء بدعوى أنّ القضية قضية عرض وطلب، فيُروى أنّه ”كان عند يونس بن عبيد حلل مختلفة الأثمان، ضرب قيمة كلّ حلّة منها أربعمائة، وضرب كلّ حلّة قيمتها مائتان، فمرّ إلى الصّلاة وخلف ابن أخيه في الدكان، فجاء أعرابي وطلب حلّة بأربعمائة، فعرض عليه من حلل المائتين فاستحسنها ورضيها، فاشتراها فمضى بها وهي على يديه، فاستقبله يونس فعرف حلّته، فقال للأعرابي: بكم اشتريت؟ فقال: بأربعمائة. فقال: لا تساوي أكثر من مائتين، فارجع حتّى تردّها. فقال: هذه تساوي في بلدنا خمسمائة، وأنا أرتضيها. فقال له يونس: انصرف، فإنّ النُّصح في الدّين خيرٌ من الدّنيا بما فيها. ثمّ ردّه إلى الدكان وردّ عليه مائتي درهم، وخاصم ابن أخيه في ذلك وقاتله وقال: أما استحييتَ! أمَا اتّقيت الله، تربح مثل الثمن وتترك النّصح للمسلمين. فقال: والله ما أخذها إلّا وهو راضٍ بها. قال: فهلاّ رضيت له بما ترضاه لنفسك”.
فهذا الموقف من يونس بن عبيد يبرز للمسلم أنّ للعملية الاقتصادية في الإسلام أبعادًا أخرى غير أبعاد الرِّبح والخسارة، ولها قوانين أخرى غير قانون العرض والطلب. فللعملية الاقتصادية في الإسلام أبعاد دينية واجتماعية، فأمّا الدّينية فمتمثّلة في نصح المسلمين وعدم غشّهم أو خداعهم، وأمّا الاجتماعية فيجعل المسلم لا يبيع شيئًا لأخيه أو يعقد صفقة إلّا إذا كان يرضاها لنفسه، فإن رضيها لنفسه أتمّها، وبارك الله له فيها. فاعتبروا يا تجّار واتّقوا اللهَ في أمّة الحبيب المصطفى صلّى الله عليه وسلّم.