قصيدة الأرض
محمود درويش - فلسطين
[size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][b][size=13] [size=13] [size=13] [size=13] [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/b]
-1-
في شهر آذار، في سنة الإنتفاضة، قالت لنا الأرضُ أسرارها الدموية. في شهر آذار مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمس بنات. وقفن على باب مدرسة إبتدائية، واشتعلن مع الورد والزعتر البلديّ. افتتحن نشيد التراب. دخلن العناق النهائي – آذار يأتي إلى الأرض من باطن الأرض يأتي، ومن رقصة الفتيات – البنفسج مال قليلاً ليعبر صوت البنات. العصافيرُ مدّت مناقيرها في اتّجاه النشيد وقلبي.
أنا الأرض
والأرض أنت
خديجةُ! لا تغلقي الباب
لا تدخلي في الغياب
سنطردهم من إناء الزهور وحبل الغسيل
سنطردهم عن حجارة هذا الطريق الطويل
سنطردهم من هواء الجليل.
وفي شهر آذار، مرّت أمام البنفسج والبندقيّة خمس بناتٍ. سقطن على باب مدرسةٍ إبتدائيةٍ. للطباشير فوق الأصابع لونُ العصافيرِ. في شهر آذار قالت لنا الأرض أسرارها.
-2-
أُسمّي الترابَ امتداداً لروحي
أُسمّي يديّ رصيفَ الجروح
أُسمّي الحصى أجنحة
أسمّي العصافير لوزاً وتين
وأستلّ من تينة الصدر غصناً
وأقذفهُ كالحجرْ
وأنسفُ دبّابةَ الفاتحين.
-3-
وفي شهر آذار، قبل ثلاثين عاما وخمس حروب،
وُلدتُ على كومة من حشيش القبور المضيء.
أبي كان في قبضة الإنجليز. وأمي تربّي جديلتها وامتدادي على العشب. كنت أحبّ "جراح الحبيب" و أجمعها في جيوبي، فتذبلُ عند الظهيرة، مرّ الرصاص على قمري الليلكي فلم ينكسر،
غير أنّ الزمان يمرّ على قمري الليلكي فيسقطُ سهواً...
وفي شهر آذار نمتدّ في الأرض
في شهر آذار تنتشرُ الأرض فينا
مواعيد غامضةً
واحتفالاً بسيطاً
ونكتشف البحر تحت النوافذ
والقمر الليلكي على السرو
في شهر آذار ندخلُ أوّل سجنٍ وندخلُ أوّل حبّ
وتنهمرُ الذكريات على قرية في السياج
وُلدنا هناك ولم نتجاوز ظلال السفرجل
كيف تفرّين من سُبُلي يا ظلال السفرجل؟
في شهر آذار ندخلُ أوّل حبٍّ
وندخلُ أوّل سجنٍ
وتنبلجُ الذكريات عشاءً من اللغة العربية:
قال لي الحبّ يوماً: دخلت إلى الحلم وحدي فضعتُ وضاع بي الحلم. قلت تكاثرْ!
تر النهر يمشي إليك.
وفي شهر آذار تكتشف الأرض أنهارها.
-4-
بلادي البعيدة عنّي.. كقلبي!
بلادي القريبة مني.. كسجني!
لماذا أغنّي
مكاناً، ووجهي مكانْ؟
لماذا أغنّي
لطفل ينامُ على الزعفران؟
وفي طرف النوم خنجر
وأُمي تناولني صدرها
وتموتُ أمامي
بنسمةِ عنبر؟
-5-
وفي شهر آذار تستيقظ الخيل
سيّدتي الأرض!
أيّ نشيدٍ سيمشي على بطنك المتموّج، بعدي؟
وأيّ نشيدٍ يلائم هذا الندى والبخور
كأنّ الهياكل تستفسرُ الآن عن أنبياء فلسطين في بدئها المتواصل
هذا اخضرار المدى واحمرار الحجارة-
هذا نشيدي
وهذا خروجُ المسيح من الجرح والريح
أخضر مثل النبات يغطّي مساميره وقيودي
وهذا نشيدي
وهذا صعودُ الفتى العربيّ إلى الحلم والقدس.
في شهر آذار تستيقظ الخيلُ.
سيّدتي الأرض!
والقمم اللّولبية تبسطها الخيلُ سجّادةً للصلاةِ السريعةِ
بين الرماح وبين دمي.
نصف دائرةٍ ترجعُ الخيلُ قوسا
ويلمعُ وجهي ووجهك حيفا وعُرسا
وفي شهر آذار ينخفضُ البحر عن أرضنا المستطيلة مثل
حصانٍ على وترِ الجنس
في شهر آذار ينتفضُ الجنسُ في شجر الساحل العربي
وللموج أن يحبس الموج ... أن يتموّج...أن
يتزوّج .. أو يتضرّح بالقطن
أرجوك – سيّدتي الأرض – أن تسكنيني صهيلك
أرجوك أن تدفنيني مع الفتيات الصغيرات بين البنفسج والبندقية
أرجوك – سيدتي الأرض – أن تخصبي عمري المتمايل بين سؤالين: كيف؟ وأين؟
وهذا ربيعي الطليعي
وهذا ربيعي النهائيّ
في شهر آذار زوّجتُ الأرضُ أشجارها.
-6-
كأنّي أعود إلى ما مضى
كأنّي أسيرُ أمامي
وبين البلاط وبين الرضا
أعيدُ انسجامي
أنا ولد الكلمات البسيطة
وشهيدُ الخريطة
أنا زهرةُ المشمش العائلية.
فيا أيّها القابضون على طرف المستحيل
من البدء حتّى الجليل
أعيدوا إليّ يديّ
أعيدوا إليّ الهويّة!
-7-
وفي شهر آذار تأتي الظلال حريرية والغزاة بدون ظلال
وتأتي العصافير غامضةً كاعتراف البنات
وواضحة كالحقول
العصافير ظلّ الحقول على القلب والكلمات.
خديجة!
- أين حفيداتك الذاهباتُ إلى حبّهن الجديد؟
- ذهبن ليقطفن بعض الحجارة-
قالت خديجة وهي تحثّ الندى خلفهنّ.
وفي شهر آذار يمشي التراب دماً طازجاً في الظهيرة. خمس بناتٍ يخبّئن حقلاً من القمح تحت الضفيرة. يقرأن مطلع أنشودةٍ على دوالي الخليل، ويكتبن خمس رسائل:
تحيا بلادي
من الصفر حتّى الجليل
ويحلمن بالقدس بعد امتحان الربيع وطرد الغزاة.
خديجةُ! لا تغلقي الباب خلفك
لا تذهبي في السحاب
ستمطر هذا النهار
ستمطرُ هذا النهار رصاصاً
ستمطرُ هذا النهار!
وفي شهر آذار، في سنة الانتفاضة، قالت لنا الأرض أسرارها الدّمويّة: خمسُ بناتٍ على باب مدرسةٍ ابتدائية يقتحمن جنود المظلاّت. يسطعُ بيتٌ من الشعر أخضر... أخضر. خمسُ بناتٍ على باب مدرسة إبتدائيّة ينكسرن مرايا مرايا
البناتُ مرايا البلاد على القلب..
في شهر آذار أحرقت الأرض أزهارها.
-8-
أنا شاهدُ المذبحة
وشهيد الخريطة
أنا ولد الكلماتُ البسيطة
رأيتُ الحصى أجنحة
رأيت الندى أسلحة
عندما أغلقوا باب قلبي عليّا
وأقاموا الحواجز فيّا
ومنع التجوّل
صار قلبي حارةْ
وضلوعي حجارةْ
وأطلّ القرنفل
وأطلّ القرنفل
-9-
وفي شهر آذار رائحةٌ للنباتات. هذا زواجُ العناصر. "آذار أقسى الشهور" وأكثرها شبقاً. أيّ سيفٍ سيعبرُ بين شهيقي وبين زفيري ولا يتكسّرُ ! هذا عناقي الزّراعيّ في ذروة الحب. هذا انطلاقي إلى العمر.
فاشتبكي يا نباتات واشتركي في انتفاضة جسمي، وعودة حلمي إلى جسدي
سوف تنفجرُ الأرضُ حين أُحقّقُ هذا الصراخ المكبّل بالريّ والخجل القرويّ.
وفي شهر آذار نأتي إلى هوس الذكريات، وتنمو علينا النباتات صاعدةً في اتّجاهات كلّ البدايات. هذا نموُّ التداعي. أُسمّي صعودي إلى الزنزلخت التداعي. رأيت فتاةً على شاطئ البحر قبل ثلاثين عاماً وقلتُ: أنا الموجُ، فابتعدتْ في التداعي. رأيتُ شهيدين يستمعان إلى البحر: عكّا تجئ مع الموج.
عكّا تروح مع الموج. وابتعدا في التداعي.
ومالت خديجة نحو الندى، فاحترقت. خديجة! لا تغلقي الباب!
إن الشعوب ستدخلُ هذا الكتاب وتأفل شمسُ أريحا بدونِ طقوس.
فيا وطن الأنبياء...تكامل!
ويا وطن الزارعين .. تكاملْ!
ويا وطن الشهداء.. . تكامل!
ويا وطن الضائعين .. تكامل!
فكلّ شعاب الجبال امتدادٌ لهذا النشيد.
وكلّ الأناشيد فيك امتدادٌ لزيتونة زمّلتني.
-10-
مساءٌ صغيرٌ على قريةٍ مهملة
وعيناك نائمتان
أعودُ ثلاثين عاماً
وخمس حروبٍ
وأشهدُ أنّ الزمانْ
يخبّئ لي سنبلة
يغنّي المغنّي
عن النار والغرباء
وكان المساءُ مساء
وكان المغنّي يغنّي
ويستجوبونه:
لماذا تغنّي؟
يردّ عليهم:
لأنّي أغنّي
.....
وقد فتّشوا صدرهُ
فلم يجدوا غير قلبه
وقد فتّشوا قلبه
فلم يجدوا غير شعبه
وقد فتشوا صوته
فلم يجدوا غير حزنه
وقد فتّشوا حزنه
فلم يجدوا غير سجنه
وقد فتّشوا سجنه
فلم يجدوا غيرهم في القيود
وراء التّلال
ينامُ المغنّي وحيداً
وفي شهر آذار
تصعدُ منه الظلال
-11-
أنا الأملُ والسهلُ والرحبُ – قالت لي الأرضُ والعشبُ مثل التحيّة في الفجر
هذا احتمالُ الذهاب إلى العمر خلف خديجة. لم يزرعوني لكي يحصدوني
يريد الهواء الجليليّ أن يتكلّم عنّي، فينعسُ عند خديجة
يريد الغزال الجليليّ أن يهدم اليوم سجني، فيحرسُ ظلّ خديجة وهي تميل على نارها.
يا خديجةُ! إنّي رأيتُ .. وصدّقتُ رؤياي تأخذني في مداها وتأخذني في هواها. أنا العاشق الأبديّ، السجين البديهيّ. يقتبس البرتقالُ اخضراري ويصبحُ هاجسَ يافا
أنا الأرضُ منذ عرفت خديجة
لم يعرفوني لكي يقتلوني
بوسع النبات الجليليّ أن يترعرع بين أصابع كفّي ويرسم هذا المكان الموزّع بين اجتهادي وحبّ خديجة
هذا احتمال الذهاب الجديد إلى العمر من شهر آذار حتّى رحيل الهواء عن الأرض
هذا الترابُ ترابي
وهذا السحابُ سحابي
وهذا جبين خديجة
أنا العاشقُ الأبديّ – السجينُ البديهيّ
رائحة الأرض توقظني في الصباح المبكّر..
قيدي الحديديّ يوقظها في المساء المبكّر
هذا احتمال الذهابِ الجديد إلى العمر،
لا يسأل الذاهبون إلى العمر عن عمرهم
يسألون عن الأرض: هل نهضت
طفلتي الأرض!
هل عرفوك لكي يذبحوك؟
وهل قيّدوك بأحلامنا فانحدرت إلى جرحنا في الشتاء؟
وهل عرفوك لكي يذبحوك
وهل قيّدوك بأحلامهم فارتفعت إلى حلمنا في الربيع؟
أنا الأرض..
يا أيّها الذاهبون إلى حبّة القمح في مهدها
احرثوا جسدي!
أيّها الذاهبون إلى صخرة القدس
مرّوا على جسدي
أيّها العابرون على جسدي
لن تمرّوا
أنا الأرضُ في جسدٍ
لن تمرّوا
أنا الأرض في صحوها
لن تمرّوا
أنا الأرض. يا أيّها العابرون على الأرض في صحوها
لن تمرّوا
لن تمرّوا
لن تمرّوا!
[size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][size=13][b][size=13][size=13][size=13][size=13] [/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/b]