إلى كل مسلم بعد رمضان...
جاء رمضان واقترب رحيله مضى،وهذه سُنّة الله في خلقه؛ لكل شيء إقبال وإدبار، وبداية ونهاية وحياة وموت.
أخي الحبيب.. وقفات لا بد أن نقفها معًا بعد أن ودعنا رمضان:
الوقفة الأولى: رمضان ضيف:
رمضان حل علينا ضيفًا عزيزًا، ولكل ضيف يوم لا بد أن يغادر فيه، وأنا وأنت يا عبد الله على هذه الدنيا ضيوف لا بد أن نغادرها، فلنستعد لهذا اليوم بالطاعة والصلاح والتقوى والإيمان.
الوقفة الثانية: رمضان والإنسان:
رمضان يشبه الإنسان، حين يأتي يفرح أهله بقدومه ويضحك الجميع بمولده، ورمضان كذلك يفرح كل مؤمن بقدومه، ويتبادلون التهاني بحضوره، وعندما يغادر الإنسان هذه الدنيا يبكي على فراقه القريب والحبيب، ورمضان كذلك يبكي على وداعه كل مؤمن.
الوقفة الثالثة: رمضان لك أو عليك:
رمضان انطلق بعد أن حل ضيفًا عزيزًا غاليًا علينا لمدة 30 يومًا، ولكن هل سيكون شاهدًا لنا بالحسنات والقيام والصيام، أم سيشهد علينا بالسيئات والمعاصي والغفلة عن طاعة الله ورحل وهو يبكي حسرة علينا وعلى أحوالنا...؟! نسأل الله أن يتقبل منا رمضان كما بلغنا رمضان ووفقنا لصيامه وقيامه وتلاوة القرآن آناء ليله وأطراف نهاره.
الوقفة الرابعة: احذر أن تكون كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثًا:
احذر أخي أن تكون مثل امرأة مجنونة كانت بمكة، اسمها ريطة بنت سعد، كانت تغزل طول يومها غزلاً قويًّا محكمًا ثم تنقضه أنكاثًا؛ أي تفسده بعد إحكامه، فقال تعالى: {وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} [النحل: 92].
ومعنى: {تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ} أي: تعاهدون قومًا على أن تكونوا معهم، وهذا العهد خديعة، فإذا وجدتم أمة أربى منهم -أي أكثر وأعز- غدرتم بعهد الأولين وعاهدتم الآخرين.
أخي الحبيب، ماذا تقول لامرأة جلست طوال شهر كامل تصنع ملبسًا من الصوف بالمغزل حتى ما إنْ قرب الغزل من الانتهاء نقضت ما صنعته؟!
هذا المثل يمثِّل حال بعضنا، فبمجرد انتهاء شهر رمضان سرعان ما يعود إلى المعاصي والذنوب، فهو طوال الشهر في صلاة وصيام وقيام وخشوع وبكاء ودعاء وتضرع، وهو بهذا قد أحسن غزل عباداته، لدرجة أن أحدنا يتمنى أن يقبضه الله على تلك الحالة التي هو فيها من كثرة ما يجد من لذة العبادة والطاعة، ولكنه ينقض كل هذا الغزل بعد مغرب آخر يوم في رمضان.
الوقفة الخامسة: احذر أخي من أن تكون مثل بلعم بن باعوراء:
وهو رجل من بني إسرائيل، ذاق حلاوة الإيمان وآتاه الله آياته، ثم انقلب على عقبيه واشترى الضلالة بالهدى والعذاب بالمغفرة، وانسلخ من آيات الله كما تنسلخ الحية من جلدها. قال تعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[الأعراف:175، 176].
وهذا التحذير القرآني ينطبق على من ذاق حلاوة طاعة الله تعالى في رمضان، فحافظ فيه على الواجبات وترك فيه المحرمات، حتى إذا انقضى شهر رمضان المبارك، انسلخ من آيات الله وأصبح صاحبًا ورفيقًا للشيطان.
الوقفة السادسة: أخي المسلم احذر الشيطان بعد رمضان:
إن الشياطين يُطلق سَرَاحها بعد رمضان وتفكّ قيودها، ولكن كيد الشيطان ضعيف كما أخبرنا ربنا سبحانه، ومن اعتصم بالله عصمه الله من مكايد الشيطان.
الشيطان عدو يغفل عنه الكثير ولا يعمل له حساب إلا من رحم ربي، رغم علمنا بعداوته لنا وتحذير الله لنا بقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [فاطر: 6].
الشيطان عنده رسالة وهي أن يدخلك النار، وعنده أهداف واضحة لتلك الرسالة وهي أن يجعلك تقع في المعاصي والذنوب التي تكون سببًا في دخولك النار، وكي تهدم كل ما فعلته في رمضان من طاعات.
وأنا وأنت ما هي رسالتنا في الحياة؟ ما هي أهدافنا؟ ما واجبنا تجاه ديننا؟ أم أننا نعيش لنأكل ونشرب ونتزوج؟!
الوقفة السابعة: الله الله في المحافظة على الصلوات الخمس جماعة وخصوصًا صلاة الفجر:
فنحن أثبتنا لأنفسنا في رمضان أننا قادرون على أداء صلاة الجماعة في المسجد، وقادرون على صلاة الفجر يوميًّا، فلنحافظ بعد رمضان على الصلوات في المسجد قدر استطاعتنا. الصلاة نور لك في حياتك وفي قبرك وعند الصراط، الصلاة بركة في المال والعيال، الصلاة إن صلحت صلح سائر العمل، فالله الله لا نُفرط في الصلاة بعد رمضان، ولا تحرم نفسك أيضًا من قيام الليل ولو يومًا واحدًا في الأسبوع.
الوقفة الثامنة: لا تهجر القرآن بعد رمضان:
لا تكن ممن يقرأ القرآن في رمضان فقط وتهجره سائر العام، فالقرآن أُنزل لنتلوه في رمضان وغير رمضان... أنت استطعت أن تقرأ كل يوم جزءًا أو جزأين أو ثلاثًا، واجتهدت في ذلك وخصصت وقتًا لذلك من يومك، فحاول أن تجعل لنفسك وردًا يوميًّا ثابتًا من القرآن، ولا تكن ممن قال تعالى عنهم جل جلاله على لسان النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم: {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].
الوقفة التاسعة: أكثر من ذكر الله:
اجتهد بعد رمضان على أن تكون من الذاكرين لله والذاكرات، يحميك من شر كل ذي شر وتنال الأجر العظيم، حافظ على أذكار الصباح والمساء، أذكار النوم، أذكار الخروج من المنزل، استغل وقت فراعك في العمل أو ذهابك إليه بذكر الله.
الوقفة العاشرة: الصحبة الصالحة:
اختر من يعينك على طاعة الله بعد رمضان، فالمرء على دين خليله والأخلاّء بعضهم يومئذٍ لبعض عدو إلا المتقين، والمؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا، فاختر صاحبًا إذا رأى منك معصية حذّرك ودلّك على طريق الخير، وكما تريد أنت صديقًا حسن الخلق، فصديقك يريد أيضًا صاحبًا يشدُّ على يديه، فانوِ الخير في نفسك لتنال ما تريد.
الوقفة الحادية عشرة: من المقبول في رمضان ومن المردود؟
- من علامة قبول الطاعة الطاعة بعدها، فاحرص على الخير والطاعة والخير والقرآن والإيمان والصدقة والصيام بعد رمضان، لتكن من المقبولين إن شاء الله.
- حاول بعد رمضان أن تحدث تغييرًا في حياتك بعد رمضان إلى الأحسن، وأن تنتصر على نفسك وشيطانك.
- لا تغتر بعبادتك ولا تقُلْ: لقد صمت رمضان كاملاً، بل احمد الله أن وفّقك وبلّغك شهر رمضان شهر الخير والإحسان، واحمده أن وفقك أيضًا لصيامه وقيامه، فكم من محروم وممنوع! واستغفر الله فتلك عادة رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد كل طاعة الاستغفار.
- الهدف من الصيام هو التقوى، كما قال تعالى في كتابه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183]. إذن فالهدف من الصوم هو التقوى، فإذا تحققت فيك التقوى مع نهاية الشهر، فقد قُبل منك رمضان بفضل الله.
لقد سُئلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: كيف كان عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قالت: «كان عمله ديمة، وأيكم يستطيع ما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستطيع» (رواه مسلم).
وروى مسلم أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إنّ أحب الأعمال إلى الله ما دووم عليه وإن قلَّ».
فعلى المسلم أن يلزم نفسه بقدرٍ من العبادات يستطيع أن يداوم عليه ولو كان قليلاً، فإنه سيكون كثيرًا بالمداومة عليه، وسيكون محببًا إلى رب العزة سبحانه وتعالى.
الوقفة الثانية عشر: لا تنس صيام ست من شوال:
من الأعمال الصالحة التي تشرع لنا بعد رمضان صيام ستة أيام من شوال.. عن أبي أيوب -رضي الله عنه- قال: قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان وأتبعه ستًّا من شوال فذلك صيام الدهر» (رواه مسلم).
وذلك أن شهر رمضان بعشرة أشهر؛ لأن الحسنة بعشر أمثالها، وستة أيام بستين يومًا أي: بشهرين، وذلك يعادل أجر صيام سنة كاملة، فلا يفوتكم هذا الفضل العظيم.
ولا يشترط في هذه الأيام الستة التتابع، ولا أن تكون مباشرة بعد يوم العيد، بل يجزئ صيام أي ستة أيام من شوال.
ويمكن أن يجعلها في أيام الاثنين والخميس أو في غيرها.
واختلف العلماء فيمن كان عليه أو كان عليها قضاء أيام من رمضان، هل ينال فضل صيام ست من شوال إذا صامها قبل قضاء ما عليه من رمضان أم لا؟ وفضل الله واسع، ولن يحرم المسلم الأجر بإذن الله إذا صامها ولو قبْل القضاء، فإن حاز فضل صيام ست من شوال فبها ونعمت، وإلا فإنه سيحوز فضل الصيام عمومًا وفضله عظيم.
عن أبي أمامة قال: قال صلى الله عليه وسلم: «من صام يومًا في سبيل الله جعل الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض» (رواه الترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع).
وعن أبي هريرة قال: قال صلى الله عليه وسلم: «من صام يومًا في سبيل الله زحزح الله وجهه عن النار بذلك اليوم سبعين خريفًا» (صححه الألباني في صحيح الجامع).
فعلى المسلم أن يستقيم على طاعة الله ويداوم عليها حتى يأتيه الموت وهو على ذلك، قال تعالى:{وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99 ]؛ أي: الموت.
وذكر تعالى عن عيسى عليه السلام أنه قال: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا} [مريم: 31].
فليس هناك غاية لانقطاع العمل الصالح إلا الموت، فاحذر أخي من التهاون في الطاعات بعد رمضان، واحذر من المعاصي بعد رمضان كما كنت تحذر منها أثناءه، واعلم أن الدنيا مزرعة للآخرة، فمن زرع خيرًا وجد خيرًا، ومن زرع شرًّا وجد شرًّا.