الصوم قديم في الإنسانية جاءت به الرسالات لقوله - تعالى -: (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون) البقرة الآية 183
فالصوم جزء من كل الديانات، ولا نكاد نجد أمه من الأمم إلا وقد مارست نوعاً من الصوم كطقس من طقوس العبادة أو الزهد أو التقشف أو غيره من الأغراض، وقد يطول ذلك أو يقصر ، وقد يكون تاماً أو جزئياً.
وكان أحد أهداف الصوم في بعض الديانات القديمة اتخاذه وسيلة لإعداد الكهنة للاتصال بآلهتهم. فكان الأغاريق القدماء يرون أن الآلهة لا تتجلى بالرؤيا المنامية أو بالوحي للكاهن إلا بعد صيام تام يلتزم به الكاهن. وفي ديانات هنود أمريكا اللاتينية القدماء كان الصوم أحد متطلبات الاعتراف بالذنوب والتوبة منها. وكان الصوم في كثير من الديانات وسيلة لكسب رضاء الآلهة وتفادى غضبها. وكان الصوم عند الهنود الحمر وسيلة لشحذ قوى الإنسان وإبراز المقدارت الطبية والقيام بما يشبه الكرامات وخرق العادات. وكثيراً ما يرتبط الصوم ببعض المناسبات الدينية الكبرى التي يحتفى بها، وهو في نهاية المطاف الوسيلة الفاعلة التي ينفصل بها الإنسان من عالم الماديات ويرتقي بها في سلم السمو الروحي.
ففي البوذية يصوم الكهنة في بعض الأيام ويعترفون بذنوبهم في همس، وكذلك في الصين حين يحتفلون بالاقتران الخريفي في أول عامهم إذ يصومون تلك الأيام. وكذلك الأمر في الهندوسية إذ الصيام جزء من طقوسهم الدينية, وقد لاحظ عالم الإنثربولوجيا فريزر في كتابه الشهير (الغصن الذهبي) أن طقوس الصوم في معظم المجتمعات البدائية تسبق رحلات الصيد أو الحروب وجاء بنماذج من بعض المجتمعات الإفريقية.
أما في الديانات السماوية فالغرض من الصوم قمع الجسد وقهر النفس الأمارة بالسوء، وهو علامة للتوبة الصادقة والتكفير عن الخطايا المرتكبة. ففي سفر يوئيل النبي: (والآن يقول الرب توبوا إليّ بكل قلوبكم بالصوم والبكاء والانتحاب). ولما عصى أهل نينوي وأنذرهم النبي يونان (يونس) بسوء العاقبة نادوا بصوم عام كامل يشمل الناس والبهائم وتابوا عن طريقهم الشرير. وكذلك كان الصوم شعيرة في اليهودية فكانوا يصومون يوم الغفران (يوم كبور: يوم الكفارة) المسمى بعاشوراء وكان صيامه من غروب الشمس إلى غروبها في اليوم التالي. وهو يوافق اليوم العاشر من الشهر الأول في العام اليهودي، وهو شهر تشرين. وقد وجد النبي - صلى الله عليه وسلم - اليهود بالمدينة يصومونه فصامه، وقال (نحن أحق بموسى منهم). وفي رواية أن قريشاً في جاهليتها كانت تصومه وتكسي فيه الكعبة، ومن المعروف أن الكعبة ظلت تفتح للزوار في يوم عاشوراء.
أما عند المسيحيين فالصيام الانقطاع عن بعض أنواع الطعام الدسم كاللحوم والمنتجات الحيوانية، وهو أنواع، منه الصوم الأربعيني الذي ينتهي بعيد الفصح، وأسبوع الآلام، وصوم العذراء، والأربعاء والجمعة، وكلها تربيات كنسية. قال السيد المسيح في إنجيل متى: (إن هذا الجنس لا يخرج إلا بالصلاة والصوم). وتكاد تكون الديانة الوحيدة التي تحرم الصوم هي الزرادشتية.
أما في الإسلام فقد فرض الصوم في العام الثاني من الهجرة، واختار المولى جلت قدرته شهر رمضان للصيام لأنه شهر القرآن وشهر الإسلام نزل فيه القرآن الكريم في ليلة مباركة منه فيها يفرق كل أمر حكيم وحازت بذلك الفضل فكانت خيراً من ألف شهر، وقد اختص المولى - جل وعلا - الصوم بنفسه كما ورد في الحديث القدسي: (كل عمل ابن آدم له إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به)، ولعظمة الصوم وشهر الصوم كان رمضان شهر الانتصارات في حياة المسلمين، وكان أول الانتصارات نزول القرآن ونزول الإسلام في رمضان. وانتصر فيه المسلمون في بدر في السابع عشر من رمضان من العام الثاني للهجرة. وفي العشرين منه فتحت مكة في العام الثامن من الهجرة، وفي العام التاسع من الهجرة حدث غزوة تبوك في رمضان، ودخل الإسلام اليمن في رمضان في العام العاشر للهجرة، وهدم سيدنا خالد بن الوليد العزى في 25 رمضان من العام الثامن للهجرة، وفي 25 رمضان انتصر المرابطون في الأندلس على الصليبيين عام 479هـ، وانهزم المغول في عين جالوت في 15 رمضان عام 658هـ، وفي رمضان انتصر البطل صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين في حطين، وفي رمضان 1973م انتصر العرب على الصهيونيين، حقق الله النصر للعرب والمسلمين على أعداء الإسلام في كل زمان ومكان ببركة شهر رمضان المعظم. ا.هـ